القاهرية
العالم بين يديك

أبريكيشن

144

بقلم/ سالي جابر

استيقظ النهار داخلي، وجذبتني الشمس إلي حرارتها، وشدني البحر إلي أجواءه المزهرة، فتلك الأشعة الصباحية تروي ظمأ العليل وينبثق منها شعاع الأمل، وبعدما كنت أعيش حياة بلا هدف، قمت أحرك طواحين الهواء بيدي الأمل وعلي شفتاي ابتسامة جذلة، وبعدما كنت أري نفسي تلك العجوز المحني ظهرها لما يحمله من ضغوط وأسي، ذات الشعر المشعث الأشيب من صفعات الحياة، تحولت الحياة فجاءة ورسمت علي عيوني ضحكات عالية، وكان كل هذا لأنني قررت أن أسير بخطي ثابتة علي أرض العلاج الواسعة، وأبدأ رحلة علاج جماعي مع من هم في مثل حالتي، يعانون مما أعاني فقدان الشغف، الاغتراب، الإحباط، يدقون بيدهم علي أبواب الخوف ويفتحونها علي مصراعيها ليقابلوا أهوال الحياة … فمن يعاني فقدان الشم لا يمكنه تذوق أشهي المأكولات التي يحبها، أما نحن نعاني فقدان معني الحياة، أصبحت الحياة بلا قيمة، مغتربون وسط الأهل والأصحاب، نعيش الوحدة رغم كثرة المحيطين بنا، نلتف حول أنفسنا ونجعل ذراعنا لحاف النجاة، لا فارق بين الليل والنهار، فكلاهما سواء، لا نقوي علي النوم إلا وأفزعتنا خطواتنا للأمام، نخشي المخاطرة، نخشي ترك الحافلة تمضي دوننا، وما لنا إلا أن نبقي علي قارعة الطريق ننتظر من يأخذ بيدنا ليُشرع لنا سفن النجاة وتبحر في أعالي البحار.
ذات يوم استيقظت من النوم لا أبالي بمظهري، لا اريد النهوض من الفراش، وهكذا صار حالي لمدة ثلاثة أيام، لا أود الحياة، وليس لدي رغبة في فعل شئ، أمسكت هاتفي وبدأت أقلب صفحات الفيسبوك ووجدت جروب يضم حوارات عن فقدان الشغف والرغبة في اللاشئ، انضممت إليهم وبدأت أتحدث بكل شئ بداخلي، ما يقلقني، لحظات الفزع عند النوم، عند الرغبة في الخروج، والأكل، في التحدث، في بداية الأمر كنت أخشي أن أحكي ما يؤلمني لأحد، لأنني كنت أسمع عبارة تبني من الحزن داخلي جدران منيعة لا شئ يحطمها مثل ” كلنا مثلك نعاني، لست لوحدك، هكذا الحياة ألم ومعاناة، الفشل لا يعرف حياتي، لا تخف من شي… توالت تلك الجمل بسرعة البرق أمام عيني تجذب إليَّ الحزن، فيتضاعف وأراني أهبط في قاع البئر- بئر المعاناة والأسي- لكني في هذه المجموعة لم أجد تلك العبارة السلبية المحطِمة؛ لكني وجدت الأمل علمت أني لست الوحيد الذي يتألم وبدأت أعلم الكثير عن نفسي، أعلم شخصيتي ودوافعي، مسببات الألم داخلي، أسباب تلك الهشاشة النفسية، وما يثير دهشتي أكثر أنني أصبح لدي القدرة علي نُصح الآخرين بعدما كنت أنا الآخرين، بدأت تلك المجموعة تنزل إلي الحدائق العامة، كنا نجلس علي شكل دائرة ونبدأ الحديث، وكل شخص منا يتلو ما بداخله ويترك مساحة للآخر ليسمعه، دون أن يكون قاضي أو محقق أو واعظ، كنا يد واحدة تواجه الآلام، ولأن لا مجموعة دون قائد، فكان قائد تلك المجموعة مختص نفسي يستطيع إدارة تلك الجلسة، وكان دوره يقتصر في التوجيه فقط، وبدأت الجلسة في حديقة عامة، وسط هدوء وجمال الطبيعة مما يعطينا جو رائع للاسترخاء، وبدأت المختص يوجه حديثه لي: تفضلي ….
أنا: كنت أحب أبي لدرجة التعلق الشديد به في كل شئ، كنا نأكل سويًا، ونحب نفس الأكل، ونفس المشروبات، ونفس الكتب، نقرأ ونتناقش، لم نكن ابنة وأبيها؛ بل كنا صديقين، أحيانًا ننعزل عن البيت في مكتب والدي نرسم ونقرأ ونسمع موسيقي، كانت أمي تغير من هذا الحب، وعند وفاة أبي لم استطع مقاومة فراقه، حاولت المقاومة؛ لكن جسدي أَبَي ورفض بشدة وسقط رغم عنادي، ودخلت المستشفي ومكثت بها بعض الوقت، وكانت أمي تساندني رغم ضعفها وحزنها؛ لكني لا أستطع الحياة لا أجد لها معني، لا أجد في بيتنا روح الحب والسعادة كما كانت، وكنت لا أفارق فراشي، ولا أفعل شئ، حتي دموعي كانت تخشي الهبوط، دخلت دائرة الاكتئاب ونسيت معني الابتسامة.
أشار المختص النفسي للشخص الذي يابني وبدأ هو بالحوار التالي:
اسمي أحمد، عمري ست وعشرون عامًا أعمل مدرس لغة إنجليزية، راتبي جيد، كانت لدي زميلة في نفس المدرسة وبدأت أحبها حقًا ووجدتها تبادلني شعورًا جميلًا، تشجعت لخطبتها، مرت علينا أيام جميلة جدًا، كنت أعمل ليلًا نهارا لأجهز شقتي، وتحقق لها ما تتمني في كل ما يخص الفرح، إلا أنني في يوم تلقيت اتصالًا هاتفيًا منها، وهي في المدرسة، ولم أذهب في ذلك اليوم لأُنهي بعض الأعمال في مصلحة حكومية، فذهبت مسرعًا لها، وجدتها لا تستطع التنفس، ونقلتها إلي المستشفي مكثت بها أيام قلائل ثم فارقت الحياة، وتركتني وحيدًا أُعاني فراقها، ويمر كل يوم شريط ذكرياتنا الذي لا يشوبه غضب أو صراخ كما تفعل بعض الفتيات، كانت فتاة بمعني الكلمة، فقدان معها معني الحياة، وأنها لابد أن تسير، قاومت هذا الشعور لكني لا أملك تلك القوة والشجاعة،تحولت حياتي إلي أخطاء في العمل، وجزاءات ثم أخذت أجازة لتتحسن حالتي، ولم يتغير في الأمر شئ.
أنتهي اليوم هكذا ونحن نحكي ما بداخلنا، ونحن نشعر بأن حِمل ثقيل هوي من فوق أكتافنا، وبدأت طاقة الجسم تتجدد، ربما تدب فيها الروح، ربما الحياة.
يتبع….

قد يعجبك ايضا
تعليقات