القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

نبذه عن راعوث ” الجزء الثانى “

84

إعداد / محمــــد الدكـــــرورى

ونكمل الجزء الثانى مع السيدة راعوث، وإن راعوث كانت مثال لكيف يمكن أن يغير الله الحياة ويوجهها في الإتجاه الذي خطط له مسبقا، فنراه يحقق خطته الكاملة في حياة راعوث، كما يفعل في حياة كل أولاده ورغم أن راعوث كانت من خلفية وثنية في موآب، إلا أنها إلتقت بإله إسرائيل وصارت شهادة حية عنه بالإيمان، ورغم أنها عاشت في ظروف متواضعة قبل أن تتزوج من بوعز، فإنها آمنت أن الله أمين في الإهتمام بأولاده، كما أن راعوث مثال لنا في العمل الجاد والأمانة، ونحن نعلم أن الله يكافيء الأمانة وقد جثت راعوث بجانب سنابل الشعير التي لملمتها خلال النهار، وكان المساء يرخي ستائره على الحقول المحيطة ببيت لحم،‏ وعمال كثيرون ماضين في طريقهم الى بوابة البلدة الجاثمة على حيد مجاور، ومع ان التعب اخذ من راعوث كل مأخذ بعدما كدحت طوال اليوم تحت حر الشمس،‏ انكبت على السنابل تخبطها بمِدرس يدويّ او عصا صغيرة لفصل الحب عنها‏ ولكن رغم تعبها،‏ اعتبرت يومها موفقا وأفضل بكثير مما كانت تترجى، وترى هل بدأت الحياة تبتسم في وجه هذه الارملة الموآبية الشابة؟‏ فهي قررت مرافقة حماتها نعمي آخذة على نفسها عهدا ان تلتصق بها وتعبد إلهها يهوه، وبعد رجوعهما محزونتين من موآب الى بيت لحم،‏ سرعان ما علمت ان شريعة يهوه تنص على تدابير عملية تحفظ كرامة الفقراء في اسرائيل،‏ بمن فيهم الغرباء.

وها هي الآن ترى عبادا ليهوه يعيشون بمقتضى الشريعة التي تربّوا عليها ويعربون عن نضج روحي ولطف فائق مسا قلبها الجريح، وكان أحد هؤلاء العباد هو بوعز،‏ وكان رجل مسن واسع الثراء اظهر لها اهتماما ابويا اليوم وهي تلتقط في حقوله،‏ ولم يسعها الا ان تبتسم في سرها حين تذكرت اطراءه اللطيف وهو يثني عليها لاهتمامها بنعمي المتقدمة في الايام واحتمائها تحت جناحي الاله الحقيقي يهوه، لكن ذلك لا يمنع ان راعوث كانت قلقة على حياتها في المستقبل،‏ فبما انها غريبة معوزة لا زوج لها ولا ولد،‏ فكيف لها ان تعيل نفسها وحماتها؟‏ أيكفي اللقاط لسد حاجاتهما؟‏ ومن سيعنى بأمرها هي حين تتقدم بها السنون؟‏ ليس مستغربا ان تشغل بالها هواجس كهذه، وقد عملت راعوث بكد لتؤمّن لقمة العيش لنفسها ولحماتها، فعندما انهت راعوث خبط السنابل وجمع الحبوب،‏ تبين انها التقطت نحو إيفة من الشعير،‏ وهى كمية ربما بلغ وزنها حوالي أربعة عشر كيلو جرام فحملتها،‏ ربما في صرة على رأسها،‏ ثم توجهت الى بيت لحم فيما اخذ الليل يبسط رداءه المظلم، وقد سرت نعمي برؤية كنتها الحبيبة،‏ ولعلها شهقت متفاجئة حين رأت حملها الثقيل،‏ وكانت راعوث قد جلبت ايضا ما فضل عنها من الطعام الذي زوده بوعز للحصادين،‏ فجلست الاثنتان تتناولان وجبة متواضعة، سألتها نعمي اين التقطت اليوم،‏ وأين عملت؟‏ ليتبارك من اهتم بك، وكانت نعمي شديدة الملاحظة.‏

فقد استنتجت من كمية الشعير الكبيرة التي احضرتها راعوث ان احدا ما اهتم بهذه الارملة الشابة وعاملها بلطف، وبينما راحت الاثنتان تتسامران،‏ اخبرت راعوث حماتها عن المعروف الذي اسداه اليها بوعز، فتأثرت نعمي وقالت مبارك هو من يهوه،‏ الذي لم يتخلّ عن لطفه الحبي نحو الاحياء والاموات، فقد اعتبرت صنيع بوعز لطفا من يهوه الذي يحث قلوب خدامه على السخاء ويعد بمكافأتهم على احسانهم، وبعدئذ،‏ شجعت نعمي راعوث على قبول عرض بوعز ان تلتقط في حقوله وتلازم فتياته،‏ خدم بيته،‏ لئلا يتعرض لها الحصادون، فأخذت راعوث بالنصيحة، كما انها ظلت ساكنة مع حماتها، وبهذه الكلمات،‏ تبرز مجددا علامة فارقة تميزت بها راعوث المحبة المجبولة بالولاء، وقد تعاونت راعوث ونعمي وتبادلتا التشجيع، وإن في بعض الحضارات،‏ لا تعد العائلة عائلة بحق ما لم يتوفر فيها زوج وزوجة وأولاد وأجداد وما الى ذلك،‏ لكن عائلة نعمي وراعوث تؤكد لنا ان بإمكان خدام يهوه ان يتحدوا في المحبة ويشيعوا جوا من الدفء واللطف والمودة في عائلتهم المفجوعة حتى لو كانت صغيرة، وقد داومت راعوث على الالتقاط في حقول بوعز بدءا من حصاد الشعير قرابة نيسان وهو شهر ‏ابريل،‏ حتى حصاد الحنطة قرابة حزيران وهو شهر يونيو،‏ وفيما مرت الاسابيع‏ لا شك ان نعمي فكرت مطولا كيف تساعد كنتها العزيزة،‏ فخلال اقامتهما في موآب،‏ كانت قد قطعت الامل من تزويجها مرة ثانية.

أما الآن فاختلف الوضع‏ لذا قالت لكنتها يا ابنتي،‏ ألا اطلب لك مكان راحة؟ لقد جرت العادة في تلك الايام ان يدبر الوالدون رفقاء زواج لأولادهم،‏ وبما ان نعمي اعتبرت راعوث ابنتها،‏ ارادت ان تجد لها مكان راحة،‏ اي الطمأنينة والحماية اللتين يفترض ان تنعم بهما في بيتها الزوجي،‏ ولكن ماذا كان في طاقة يدها ان تفعل؟‏ فعندما اتت راعوث على ذكر بوعز لأول مرة،‏ قالت نعمي الرجل ذو قرابة لنا، وهو من اوليائنا، فماذا عنى ذلك؟‏ وقد تضمنت الشريعة التي اعطاها الله لإسرائيل تدابير حبية للعائلات التي فجعت او افتقرت من غدر الزمان، فكانت المرأة التي تترمل قبل ان تنجب ولدا تمنى بمصيبة كبيرة لأن ذرية زوجها تنقطع فيندثر اسمه مدى الاجيال،‏ الا ان شريعة الله اتاحت لأخي الميت التزوج بأرملة اخيه كي تنجب وريثا يحمل اسم زوجها الميت ويهتم بأملاك العائلة، وقد اوضحت نعمي لكنتها خطتها لإتمام هذا الزواج، ولعل راعوث فغرت فمها من الدهشة فيما راحت تسمع كلام حماتها، فهي على الارجح لم تكن ملمة بعد بشريعة اسرائيل ولا عهد لها بعاداتها وتقاليدها‏ مع ذلك،‏ دفعها احترامها العميق لنعمي الى الاصغاء بانتباه الى كل كلمة،‏ ومع ان ما اشارت به عليها بدا صعبا او محرجا،‏ وربما مخزيا ايضا،‏ وافقت على كلامها قائلة بتواضع، كل ما قلت لي افعله، واحيانا،‏ يصعب على الذين في سن الشباب العمل بنصيحة الاكبر سنا والاكثر خبرة.‏

مفترضين ان الجيل القديم لا يفهم حقا التحديات والمشاكل التي يواجهها الجيل الجديد،‏ غير ان مثال راعوث المتواضعة يعلمنا ان الاصغاء الى حكمة الاكبر سنا الذين يحبوننا ويهتمون بمصلحتنا يعود علينا بفوائد كثيرة،‏ ولكن بما اشارت نعمي على كنتها،‏ وكيف استفادت راعوث من تطبيق كلامها؟‏ وهو أنه في ذلك المساء توجهت راعوث الى البيدر،‏ وهو بقعة منبسطة مرصوصة يقصدها المزارعون لدرس الحبوب وتذريتها، ويقع البيدر عادة على تلة او في سفحها حيث يهب النسيم قويا عند العصر وفي اول المساء، ولفصل الحبوب عن العصافة والتبن،‏ يلقي الحصاد الحبوب في الهواء مستخدما مذراة او رفشا كبيرا، فتسوق الريح العصافة الخفيفة الوزن بعيدا،‏ في حين تقع الحبوب الاثقل ارضا، وقد راقبت راعوث البيدر دون ان تلفت الانظار فيما اخذت وتيرة العمل تخف شيئا فشيئا،‏ وكان بوعز قد اشرف على تذرية الحبوب وكدسها كومة كبيرة،‏ فأكل وشبع ثم تمدد عند طرف كدس الحبوب،‏ وكما يتضح،‏ كان النوم بجانب المحصول عادة شائعة ربما لحماية الغلة الثمينة من اللصوص والناهبين،‏ وعندما رأت راعوث بوعز يخلد الى النوم،‏ عرفت ان الوقت قد حان لتنفيذ خطة نعمي، فاقتربت راعوث من بوعز خلسة ودقات قلبها تتسارع،‏ وكان واضحا ان الرجل مستغرق في النوم،‏ فكشفت جهة قدميه واضطجعت عندهما مثلما اوصتها نعمي.‏

ثم راحت تنتظر ومر الوقت بطيئا حتى خالته راعوث دهرا، وأخيرا نحو منتصف الليل،‏ بدأ بوعز يتقلب في نومه‏ ثم استيقظ وهو يرتعش من البرد،‏ ولعله كان يهم بتغطية رجليه حين شعر بوجود شخص ما، فالتفت وإذا بامرأة مضطجعة عند قدميه، سأل بوعز من انتى؟‏‏ فأجابت راعوث ربما بصوت مرتجف انا راعوث أمتك،‏ فابسط ذيل ثوبك على أمتك،‏ لأنك وليّ، وقد سعت راعوث للقاء بوعز بنية سليمة ودافع غير اناني، وقال بوعز لراعوث بنغمة صوت رقيقة هدأت روعها باركك يهوه يا ابنتي، لأن ما صنعته من لطف حبي في الاخير خير من الاول،‏ اذ لم تذهبي وراء الشبان،‏ فقراء كانوا او اغنياء ففي الاول،‏ اعربت راعوث عن محبة مجبولة بالولاء حين رجعت مع نعمي الى اسرائيل واهتمت بها، وفي الاخير،‏ اظهرت لطفا حبيا باستعدادها للزواج من رجل مسن،‏ فقد عرف بوعز ان شابة مثلها ستفكر دون ريب بعريس شاب،‏ فقيرا كان او غنيا،‏ لكن راعوث لم ترد ان تحسن الى نعمي فقط بل الى حميها الميت ايضا،‏ بإنجاب وريث له يحمل اسمه بين اهل موطنه فلا عجب ان بوعز تأثر بعدم انانيتها، وأردف بوعز قائلا والآن لا تخافي يا ابنتي، فكل ما تقولين افعله لك،‏ لأن كل الشعب في باب المدينة يعلم انك امرأة فاضلة، وقد راقت لبوعز فكرة الزواج براعوث،‏ ولعله لم يتفاجأ كثيرا حين طلبت منه ان يكون وليّها،‏ لكنه كان رجلا بارا،‏ فلم يعطى الاولوية لأهوائه الشخصية.

فقد اخبر راعوث ان هناك وليّا آخر اقرب منه الى عائلة زوج نعمي الميت،‏ وأنه سيتحدث اليه اولا بشأن أحقيته في الزواج بها، وبعد ذلك،‏ طلب بوعز من راعوث ان تستلقي مجددا وتنام حتى يلوح الفجر،‏ ثم تعود خفية الى بيتها،‏ فقد كان حريصا على سمعتها وسمعته هو ايضا لئلا يظن احد خطأ انهما اقاما علاقة جنسية، فعملت راعوث بكلامه واضطجعت عند قدميه،‏ وكانت على الارجح اقل توترا لأنه لطف بها ولم يردّها خائبة،‏ وقبل ان يطلع الصبح،‏ رجعت الى بيت لحم بعدما كال لها في معطفها كمية وافرة من الشعير، وكم شعرت راعوث بالسعادة حين استذكرت كلمات بوعز انها امرأة فاضلة بشهادة الجميع‏ ولا شك ان سعيها الدؤوب الى التعرف بيهوه وخدمته اسهم الى حد بعيد في اكتسابها هذا الصيت، وكما انها اظهرت محبة شديدة ومراعاة كبيرة لنعمي وشعبها،‏ فتكيفت طوعا مع عاداتهم وأعرافهم التي كانت حتما غريبة عنها، وقد سألت نعمي لدى وصول راعوث الى البيت مَن انت يا ابنتي؟‏‏ صحيح ان الظلمة ربما حالت دون ان تميّز كنتها،‏ لكنها ارادت ايضا ان تستعلم هل عادت راعوث ادراجها ارملة غير مرتبطة مثلما ذهبت،‏ ام انها الآن تعقد الآمال على زواج قريب،‏ فقصّت راعوث على حماتها فورا كل ما جرى بينها وبين بوعز وأعطتها ايضا كمية الشعير التي ارسلها اليها هدية، وعندئذ،‏ ارتأت نعمي ألا تتخذ راعوث خطوة اخرى ونصحتها ألا تخرج في ذلك اليوم لتلتقط في الحقول.

قد يعجبك ايضا
تعليقات