القاهرية
العالم بين يديك

نبذه عن الصدق والصادقين ” الجزء الأول “

114

كتب/ محمـــد الدكـــرورى

قد أمر الله تعالى بالصدق في عدة آيات، وأثنى على الذين يرعون العهـد والأمانات، وأخبر بما لهم من الثواب الجسيم، لقد أنزل الله في شأن الصادقين معه آيات تتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فقد ثبت عن أنس أن عمه أنس بن النضر لم يشهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق ذلك على قلبه، وقال أول مشهد شهده رسول لله صلى الله عليه وسلم غبت عنه، أما والله لئن أراني الله مشهدا مع سول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع، قال فشهد أحدا في العام القابل فاستقبله سعد بن معاذ، فقال يا أبا عمر إلى أين؟ فقال واها لريح الجنة، إني أجد ريحها دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين رمية وضربة وطعنة، فقالت أخته الربيع بنت النضر، ما عرفت أخي إلا بثيابه، فنزلت فنزلت هذه الآية “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ” وإن الصدق مع الله والإخلاص له وحده له سر عجيب في هذه الدنيا وفي الآخرة، فالحذر الحذر من التعامل مع الله بالرياء والكذب، والنفاق والعياذ بالله، وإنه يجب عليك الصدق في أي مكان وفي أي عمل كنت، إن كنت داعية فاصدق الله، وإن كنت كاتبا فاصدق الله، وإن كنت حارسا فاصدق الله، وإن كنت مجاهدا فاصدق الله، وإن كنت موظفا فاصدق الله، مهما كانت وظيفتك فاصدق الله، فان الصدق أصل البر، والكذب أصل الفجور، فعن النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال.

” عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فان الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذابا ” رواه البخاري ومسلم، وإن من أهم صفات المسلم التي أمر الله تعالى بالتحلي بها الصدق، فيقول الله سبحانه وتعالى فى سورة التوبة ” يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ” ويقول سبحانه وتعالى أيضا فى سورة الأحزاب ” والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ” وإن الصدق يكون في كل أمر من أمور الحياة، ولا يقتصر على الصدق في كلام الناس وأحاديثهم المعتادة، وقد استخدم لفظ الصدق في الكتاب والسنة في معان أخرى عظيمة غير الصدق في كلام الناس وما يتبادلونه من أخبار، فهناك أولا الصدق في إيمان العبد بهذا الدين ابتداء، وفي نطقه بالشهادتين، فلابد أن يكون صادقا فيما بينه وبين ربه في ذلك، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، قال “ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار” رواه البخارى ومسلم.

ولقد أمر الله بالصدق في عدة آيات، وأثنى على الذين يرعون العهد والأمانات، وأخبر بما لهم من الثواب الجسيم، فقال تعالى فى سورة المائدة ” هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم ” وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر, وإن البر يهدي إلى الجنة, ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق, حتى يكتب عند الله صديقا ” فأخبر النبى الكريم صلى الله عليه وسلم أن الصدق يهدي إلى البر, والبر، اسم جامع لكل خير وطاعة, وإحسان إلى الخلق، والصدق عنوان الإسلام، وميزان الإيمان, وعلامة الكمال، وإن لصاحبه المقام الأعلى عند الملك المتعال، وبالصدق يصل العبد إلى منازل الأبرار، وبه تحصل النجاة من الآفات وعذاب القبر وعذاب النار، وبالصدق يكون العبد معتبرا عند الله وعند الخلق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” البيعان بالخيار, فإن صدقا وبيّنا, بورك لهما في بيعهما, وإن كذبا وكتما, مُحقت بركة بيعهما” فالبركة مقرونة بالصدق والبيان، والتلف والمحق مقرون بالكذب والكتمان، والمشاهدة أكبر شاهد على ذلك والعيان، فإنه لا تجد صادقا إلا مرموقا بين الناس بالمحبة والثناء التعظيم، ولا كذابا إلا ممقوتا بهذا الخُلق الأثيم، وإن الصادق يطمئن إلى قوله العدو والصديق، والكاذب لا يثق به بعيد ولا قريب.

وإن الصادق الأمين, مؤتمن على الأموال والحقوق والأسرار، ومتى حصل منه كبوة أو عثرة, فصدقه شفيع يقيه العثار، والكاذب لا يؤمن على مثقال ذرة, ولو فرض صدقه أحيانا, لم تحصل به الثقة والاستقرار، وما كان الصدق في شيء إلا زانه, ولا الكذب في شيء إلا شانه، وإن الصدق طريق الإيمان، والكذب بريد النفاق، وهناك أيضا صدق العبد بينه وبين ربه في الطلب والدعاء والعبادة، فعن أبي ثابت وقيل أبي سعيد، وقيل أبي الوليد، سهيل بن حنيف وهو بدري رضي الله عنه أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم قال “من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه” رواه مسلم، وتأملوا أيضا ما صح عند الترمذي وغيره عن أبي هريرة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم “ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه” فانظروا مدى انتفاع المسلم بالدعاء والذكر إن وجد فيهما الصدق، ومدى خسرانه وعدم انتفاعه بذلك مع غياب الصدق من القلب والاقتصار على حركة الجوارح، كذلك الذي يستغفر ربه وفي قلبه نية العودة إلى الذنب، فهذا كما قال السلف، كالمستهزئ بربه، واستغفاره يحتاج إلى استغفار، وفي المقابل لو استغفر العبد ربه بصدق وعزم على عدم العودة إلى الذنب وندم على ما فات فإن الله يغفر له، ولو عاد فوقع في الذنب مرة أخرى واستغفر بنفس الصدق السابق ذكره لغفر الله له.

كما ورد بذلك الحديث الصحيح، وذكر بعض العلماء فيما سلف من الزمان أن العبد إذا قال في استفتاح صلاته، وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، وقلبه مشغول بالدنيا فهو كاذب فأيّنا يحاسب نفسه على ألفاظه وأذكاره ودعواته، وما فيها من صدق وحضور قلب وصفاء نية؟ وأن الصدق في مقامات الدين وعباداته درجات متفاوتة، فمثلاً يتفاوت المؤمنون في صدق خوفهم من الله عز وجل، فإنك تجد كثيرا من المسلمين يصح إطلاق اسم الخوف في حقهم ولكن لا يبلغون حقيقته الكاملة، فمثلاً ترى أحدهم إذا خاف سلطانا يصغر ويرتعد خوفا من وقوع المحذور، ثم إنه يخاف النار ولا يظهر عليه شيء من ذلك عند فعل المعصية، ولذلك قال عامر بن قيس، عجبت للجنة نام طالبها، وعجبت للنار نام هاربها، وقد كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وصحابته وسلف هذه الأمة قمة في الخوف من الله سبحانه وتعالى، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا رأى الريح تغير وجهه، وقام وأقبل وأدبر ويقول “ما يؤمنني أن قوما رأوا الريح فقالوا “هذا عارض ممطرنا” أي دائما كان فيه عذابهم، فإذا نزل المطر ذهب ذلك عنه صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم، يصلي وحده فيبكي، والناس في العادة إنما يبكون في اجتماعهم معًا في الصلاة، ولكن الخائفين من الله عز وجل، حقا كرسول الله صلى الله عليه وسلم، يقع منهم البكاء في صلاتهم منفردين عن الناس.

كما يقول عبد الله بن الشخير، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي “ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء” أي كصوت القدر يغلي بالماء، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، من خوفه من الحساب والجزاء يقول ليتني كنت شاة ذبحها أهلها، فأكلوا لحمها، وحسوا مرقها” وكان بعض السلف يبكي بكاء شديدا عند قوله تعالى فى سورة الزمر ” وبدالهم ما لم يكونوا يحتسبون ” ويقول أحدهم هم قوم عملوا أعمالا ظنوها صالحة فوجدوها وبالا عليهم يوم القيامة، وكان بعضهم ينظر مرارا في المرآة مخافة أن يكون وجهه قد اسود من المعاصي، وكان بعضهم يقوم بالليل يتفقد جلده وينظر فيه خشية أن يكون قد مسخ قردا أو خنزيرا، فهكذا كان صدق خوفهم من عقوبات الذنوب والمعاصي، والتحقق بالصدق في هذه الأمور عزيز جدا، فلا غاية لهذه المقامات حتى ينال تمامها، ولكن لكلٍ حظ حسب حاله، إما ضعيف وإما قوي، فإذا قوي سمي صادقا، وإذا علم الله من عبد صدقا قَرّبه وأنعم عليه وأعانه وأكرمه بمعيته، والصادق في جميع مقامات الدين وعباداته عزيز، ولكن قد يكون للعبد صدق في بعضها دون بعض، وهناك أيضا الصدق في النية والإرادة، ويسمى الإخلاص، ومقابله الكذب أو الرياء فيقول الله عز وجل فى كتابه الكريم فى سورة محمد ” فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم ” أي فإذا جدّ الحال وحضر القتال، فلو أخلصوا النية لله لكان خيرا لهم.

وفي حديث “أول ثلاثة تسعر بهم النار” أن الله يقول لكل منهم “كذبت، وإنما قرأت أو تصدقت أو قاتلت ليقال كذا وكذا” أي وليس صدقا في طلب الثواب من الله عز وجل، وإن من علامات صدق النية والرغبة في الأجر كتمان المصائب والطاعات جميعا، وكراهة اطلاع الخلق على ذلك، وهناك الصدق في العزم والوفاء، كأن يقول إن أتاني الله مالا تصدقت بجميعه، فقد يقول ذلك مع عدم صدق العزيمة، بل مع التردد أو خلو القلب من الصدق والإصرار على ما يتلفظ به، وقد يقول ذلك مع عزيمة ثم يترك الصدق في الوفاء عند تمكنه من ذلك ومن هنا يقول الله تعالى فى سورة التوبة ” ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون، فأعقبهم نفاقا فى قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ” فأين هؤلاء ممن قال الله عز وجل فيهم “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما” وهناك أيضا الصدق في العمل، والبذل بالإتقان، واستفراغ الجهد، ومن هذا القبيل قول سعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، أي صادقون في الحرب والقتال، نثبت ونستفرغ الجهد، وقال صلى الله عليه وسلم “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه” .

قد يعجبك ايضا
تعليقات