القاهرية
العالم بين يديك

متحف الكلمات- قصة قصيرة

254
بقلم/ حسن محمد
ياولدي، أين أنت؟ قالها وهو يجلس على الأريكة مٌطرقَ الرأسِ يستند بظهره، والسبحةُ تتدلَّى من اليد اليمنى.
-نعم، نعم أنا قادم ياجدي، أأحضر لك كوب الماء؟!
-انظر هناك على المكتب.
-ما هذا؟
-إنه -ياولدي- مصباحٌ سحري.
في لهفة واستغراب صاح:
-مصبااااح سحري!
-أحمله لي مسرعا. قالها بصوت يجهش بالبكاء.
-ماذا بك؟
-ليس هناك وقتٌ.
شرع الولدُ يمسك المصباح، تعلوه طبقةٌ من الغُبار والأتربة ثم جاء به مُتصببَ العرقِ -كقطرات الندى- يحمله في ثُقلٍ، صائحا:
-ها هو ياجدي، أهذا المصباح يعمل كما في قصة علاء الدين ثم يخرج منه عفريت كبير؟!
-سيعمل هذا المصباح -إن شاء الله- في الوقت الذي سأرحل فيه.
– ترحل! إلى أين ترحل ياجدي؟!
– سأفتقدك يا صغيري.
***
يقف الولدُ مطرق الرأس بصوت حزين يسأل:
-لمَ ذهبت ياجدي؟
اغرورقت عيناه بالدموع ثم جلس على ركبتيه، يدفن وجهه في كف يده ويبكي بلا توقف.
جاء صوت يهمس بإذنه:
-المصباح السحري.. المصباح السحري..
اعتدل من انحناء ظهره ناظرًا إلى الركن الذي تركه فيه..
***
-سيعمل هذا المصباح -إن شاء الله- في الوقت الذي سأرحل فيه.
***
جري بخطوات مسرعة ثم أمسكه وبينما هو يحك -بيده الصغيرتين- المصباح السحري إذ بنور يخرج منه ليظهر عفريت قائلا بصوت مخيف، مُحدِّثًـا في قلبه إخفاقا ورُعبا:
-شُبيك لبُيك حلمك بين ايديك.
-من، من أنت؟
-لا يهم اسمي، أشكرك.
-لمَ تشكرني؟!
-على أنك أخرجتنى من هنا.
-جئت فقط لتشكرني!
قال بضحكة يكشف فيها عن أسنان ذهبية لامعة، وعينين حمراويتين:
-أنا هنا لكي أحقق لك ما تتمنى.
-كل ما أتمنى !
-نعم، فلتطلب ما تتمنى.
-أريد جدي يعود إلى الحياة.
-أهناك شيء آخر تريده؟
-لا، جدي فقط.
-إذًا فلتغمض عينك.
***
-افتح عينيك يا صغيري.
نظرت عينان حائرتان تبحث -مثل وردة تتفتح ببطء في الصباح- عن شمس مشرقة.. عن حبيب آتيًا بعد غياب طال سنين.
إنه شيءٌ قد كُتب أعلاه جملة «متحف الكلمات» بخط كبير مُتخذا لونًا ذهبيًّا.
-ممم.. متحاافف الكلم.. ااات!
-أين جدي، أهو قد جاء هنا؟!
-نعم ياصغيري هو بالداخل…
-إذا فلندخل. قالها وهو يقفز من الفرح والشوق.
-قبل الدخول؛ علينا الاتفاق على بعض الشروط.
أولاً: عليك ألا تسبب ضجيجًا بالداخل.
ثانيًا: لديك ثلاث أمنيات لا أكثر.
ثالثا: هذه تذكرة الدخول، فلتحتفظ بها في جيبك.
شرعا يقتربان إلى باب المتحف في حين ظهر حارسان عريضان قويان البنية -على جانبي الباب- يقفان وقد ارتسمت على ملامحهما تعابير توحي بالحدة والغلظة.
في صوت واحد قائلان:
-ماذا تريدان؟!
-نريدا الدخول إلى متحف الكلمات. قال الصغير بصوت يشي بالعطف والمكر في آن واحد.
-هل لديكم تذاكر؟
-نعم، نعم لدينا.
***
الباب ينفتح في بطء.. شعاعُ الشمس يخترق فتحات النوافذ العلوية فتتراءة بعض تفاصيل المتحف.
مكان -يكاد يشبه القصر- يتكون من طابقين..
ففي الطابق السفلي ترصصت حُجرات بجانب بعضها البعض وعلى كل باب نُقشت -بحروف ذهبية- كلمات بلغة ليست عربية..
-أين المرشد السياحي لهذا المكان؟ لا أفهم معنى الكلمات؟!
-أنا مرشدك ياصغيري، سأخبرك بكل شيء لا تقلق.
-وأي لغة هذه يامُرشدي؟
-إنها اللغة «الهيروغليفية».
-قد سمعت عنها من جدي.. جدي! أين هو؟!
-إنه بداخل هذا الباب.
-وما اسمه؟
-هذا باب «الموت».
-الموت! وماذا يفعل جدي بداخله؟
علما بأن كل بابٍ قد اتخذ لونا خاصا به.. وكان لون «الموت» هو الأسود والأبيض هو «الأمل»، أما «الحياة» فكانت تحمل اللون الرمادي.
-هو يقبع وراء هذا الباب، هل نسيت أنه قد مات؟!
-أعلم ذلك، لكنك قلت أنك ستعيده إليّ.
-سأعيده إليك، ولكن لا تنس الشرط الثاني.
***
-ثانيًا: لديك ثلاث أمنيات لا أكثر.
***
-نعم، فأنا لدي ثلاث أمنيات فقط.
-الأولى: اسمع صوته(ضحكته وبكاءه).
-الثانية: أن تراه عيني(قد اشتاقت لرؤيته).
-الثالثة: أن أعانقه.
-كيف هذا، أليست هي أمنية واحدة؟!
-يا مرشدي، ماذا تحمل الأبواب الأخرى؟
-هناك على يمينك الأمل يتبعه الحب ثم يليه الجمال، الحنان والعطف.. أما على يسارك الفقد، الألم، الحزن والهجران.
-وماذا يوجد في الطابق العلوي؟
-باب الجنة والنار.
-هل لك أن تحقق لي شيئا هناك؟!
-إن اقتربت لأعلى -ياصغيري- هُلكت واحترقت، فالطابق السفلي «الدنيا» أما الطابق العلوي «الآخرة».
-إذن فلتحقق لي ما قد تمنيت.
-والأمنيات الأخرى!
-كيف لا تدري أن وراء باب «الموت» رجلٌ يجتمع فيه كل الكلمات والصفات الطيبة والحسنة التي قولتها.
الأمل-الحب-العطف-الحنان-الكرم-الأخلاق
-شبيك لبيك مرشدك تحت أمرك وحلمك بين أيديك.
يفتح الباب ليعلن عن صوت ينادي..
***
-ياولدي، أين أنت؟
-استيقظ يابني، جدك يناديك.
-نعم ياأمي.. جدي، أهو عايش؟!
-ماذا تقل؟
-ياولدي، أين أنت؟
-نعم، نعم أنا قادم ياجدي، أأحضر لك كوب الماء؟!
هرول الولد إلى جده مرتميا يعانقه وهو يجهش بالبكاء.. لا ترحل ياجدي، لا ترحل.

قد يعجبك ايضا
تعليقات