بقلم/ حمادة توفيق
(السادسة)
لمّا ضاقتْ بجميلٍ الحيلُ وأرادَ الخروجَ إلى الشامِ، هجمَ ليلاً على بُثينةَ وقد وجدَ غفلةً في الحيِّ، فقالت له : أهلكتني والله وأهلكتَ نفسك، ويحك أما تخافُ ؟
فقال لها : هذا وجهي إلى الشام، وإنما جئتكِ مودعاً.
فحادثها طويلاً ثم ودعها وقال : يا بُثينة، ما أرانا نلتقي بعد هذا، وبكى بكاءً طويلاً وبكت.
ثم قال وهو يبكي :
ألا لا أبالي جفوةَ الناسِ ما بدا ..
لنا منكِ رأيٌ يا بُثينُ جمـيلُ !
وما لم تطيعي كاشحاً أو تبدلي ..
بنا بدلاً أو كان منك ذهـولُ !
وإني وتكراري الزيارةَ نحوكمُ ..
بُثينُ بذي هجرٍ بُثينُ يطـولُ !
وإنّ صبابتي بكم لـكـثـيرةٌ ..
بُثينُ ونسيانكـمْ لـقـلـيلُ !
وخرجَ إلى الشامِ وطال غيابه فيها، ثم قدمَ وبلغَ بُثينةَ خبرُهُ فراسلته مع بعض نساء الحيِّ تذكرُ شوقها إليه ووجدها به، وطلبها للحيلةِ في لقائه، وواعدتهُ لموضعٍ يلتقيانِ فيه، فسارَ إليها وحدثها وبثَّ إليها أشواقَه وأخبرها خبرَهُ بعدها، وقد كان أهلها رصدوها فلما فقدوها تبعها أبوها وأخوها حتى هجما عليهما، فوثبَ جميلُ وانتضى سيفه وشدَّ عليهما فاتقياه بالهربِ، وناشدته بُثينةُ اللهَ ألا انصرفْ، وقالت له : إن أقمتَ فضحتني، ولعلَّ الحيَّ أن يلحقوا بك.
فأبى وقال : أنا مقيمٌ، وامضي أنتِ وليصنعوا بي ما أحبوا.
فلم تزل تنشده حتى انصرف، وقد هجرته وانقطع التلاقي بينهما مدة، وفي ذلك يقول :
ألم تسألِ الربعَ الخـلاءَ فـينـطـقُ ..
وهل تخبرنك اليومَ بيداءٌ سمـلـقُ !
وقفتُ بها حتى تجلـتْ عـمـايتـي ..
وملَّ الوقوفُ إلا رحبي المـنـوّقُ !
تعزو إن كانـتْ عـلـيكَ كـريمةً ..
لعلك من رقٍّ لبـُثـينةَ تـعـتـقُ !
لعمركم إنَّ الـبـعـادَ لـشـائقـي ..
وبعضُ بُعادِ البينِ والنـأيِ أشـوقُ !
لعلكَ محـزونٌ ومـبـدٍ صـبـابةً ..
ومظهرٌ شكوى من أناسٍ تفرقـوا !
وبيضٌ غريراتٌ تُثني خصـورهـا ..
إذا قمنَ أعجازٌ ثـقـالٌ وأسْـوُقُ !
عزائزٌ لم يلقـينَ بـؤسَ مـعـيشةٍ ..
يُجنَّ بهنّ الناظـرُ الـمـتـنـوقُ !
وغلغلتْ من وجدٍ إليهـنَّ بـعـدمـا ..
سريتُ وأحشائي من الخوفِ تخفقُ !
معي صارمٌ قد أخلصَ القينُ صقلـَهُ ..
له حين أغشيه الضـريبةَ رونـقُ !
فلولا احتيالي ضقنَ ذراعـاً بـزائرٍ ..
به من صبابـاتٍ إلـيهـنّ أولـقُ !
تسوقُ بقضبانِ الأراكِ مـفـلـجـاً ..
يشعشعُ فيه القارسـيُّ الـمـروقُ !
أبُثينة للوصلُ الـذي كـان بـينـنـا ..
نضا مثل ما ينضو الخضابُ فيخلقُ !
أبُثـينةُ مـا تـنـأينَ إلا كـأنـنـي ..
بنجمِ الثريا مـا نـأيتُ مـعـلـقُ !
فقال له روق :
إنك لعاجز ضعيف في استكانتكَ لهذه المرأة وتركك الاستبدالَ بها مع كثرةِ النساءِ ووجودِ من هو أجمل منها، وإنك منها بين فجورٍ أرفعك عنه أو ذلٍّ لا أحبه لك، أو كمد يؤديك على التلف، أو مخاطرة بنفسك لقومها إن تعذرت لهم بعد إعذارهم إليك، وإن صرفت نفسك عنها وغلبت هواك فيها وتجرعت مرارة الحزم وتصير نفسك عليها طائعة له أو كارهة ألفتَ ذلك وسلوتَ.
فبكى جميلُ وقال : يا أخي، لو ملكت اختياري لكان ما قلت صواباً، ولكني لا أملك لي اختياراً، أنا كالأسير لا يملك لنفسه نفعاً، وقد جئتك لأمرٍ أسألك أن لا تكدرَ ما رجوته عندك فيه بلومٍ، وأن تحمل على نفسك في مساعدتي.
فقال له : فإن كنت لا بد مهلكاً نفسك فاعمل على زيارتها ليلاً، فإنها تخرجُ مع بناتِ عمٍّ لها على ملعبٍ لهنَّ فأجيء معكَ حينئذ سراً، ولي أخ من رهط بُثينة من بني الأحب نأوي عنده نهاراً فأسأله مساعدتك على هذا، فتقيم عنده أياماً نهارك وتجتمع معها بالليل إلى أن تقضي أربك !!
فشكره، ومضى روقُ إلى الرجل الذي من رهط بُثينة فأخبره الخبر واستعهده كتمانه، وسأله مساعدته فيه، فقال له : لقد جئتني بإحدى العظائم، ويحك، إن في هذا معاداتي الحيِّ جميعاً إن فطن به.
فقال : أنا أتحرز في أمره من أن يظهر.
فواعده في ذلك ومضى إلى جميل فأخبره بالقصة، فأتيا الرجلُ ليلاً فأقاما عنده، وأرسل على بُثينة بوليدةٍ له بخاتم جميل فدفعته إليها، فلما رأته عرفت فتبعتها، وجاءته فتحدثا ليلتهما وأقام بموضعه ثلاثة أيام ثم ودعها، وقال لها : عن غير قِلى واللهِ ولا مللٍ يا بثينة كان وداعي لك، ولكني قد تذممت من هذا الرجل الكريم وتعريضه نفسه لقومه، وقد أقمت عنده ثلاثاً ولا مزيد ذلك، ثم انصرف وقال في عذل روق له :
لقد لامني فيها أخ ذو قـرابة ..
حبيب إليه في ملامته رشدي !
وقال أفق حتى متى أنت هائمٌ ..
ببُثينة فيها قد تعيد وقد تبـدي !
فقلتُ له فيها قضى الله ما تـرى ..
عليّ وهل فيما قضى اللهُ من ردِّ !
فإن يكُ رشداً حبـهـا أو غـوايةً ..
فقد جئته ما كان مني على عمدِ !
لقد لجَّ ميثاقٌ من الـلـهِ بـينـنـا ..
وليس لمن لم يوفِ للهِ من عهـدِ !
فلا وأبيها الخير ما خنت عهدهـا ..
ولا لي علمٌ بالذي فعلتْ بعـدي !
وما زادها الواشـونَ إلا كـرامةً ..
عليّ وما زالت مودتها عـنـدي !
أفي الناس أمثالي أحب فحالـهـم ..
كحالي، أم أحببتُ من بينهم وحدي ؟ !
وهل هكذا يلقى المحبون مثل مـا ..
لقيت بها أم لم يجد أحدٌ وجـدي !
ولقد قيلَ وقع بين بثينة وجميل هجرٌ في غيرةٍ، كان غار عليها من فتى كان يتحدث إليها من بني عمها، فكان جميلُ يتحدث إلى غيرها، فيشق ذلك على بثينة وعلى جميل، وجعل كل واحد منهما يكره أن يبدي لصاحبه شأنه، فدخل يوماً وقد غلب عليه الأمرُ إلى البيتِ الذي كان يجتمع فيه مع بُثينة، فلما رأته جاءت إلى البيت ولم تبرز له، فجزع لذلك وجعل كل واحد منهما يطالع صاحبه، وقد بلغ الأمر من جميل كلَّ مبلغٍ فأنشأ يقول :
لقد خفت أن يغتالني الموتُ عنـوة ..
وفي النفس حاجاتٌ إليكِ كما هيا !
وإني لتثنيني الحفـيظةُ كـلـمـا ..
لقيتك يوماً أن أبـثـك مـا بـيا !
ألم تعلمي يا عذبة الـريق أنـنـي ..
أظل إذ لم أُسقَ ريقـكِ صـاديا !
فرقت له بثينة وقالت لمولاة لها كانت معها : ما أحسن الصدق بأهله، ثم اصطلحا فقالت له : أنشدني قولك :
تظل وراء الستر ترنو بلحظها ..
إذا مر من أترابها من يروقها !
فأنشدها إياها فبكت وقالت : كلا يا جميل، ومن ترى أنه يروقني غيرك !!
وروى بعضهم عن عجوز من بني عذرة قالت : كنا على ماءٍ لنا بالجناب، وقد تجنبنا الجادة لجيوش كانت تأتينا من قبل الشام تريد الحجاز، وقد خرجَ رجالنا لسفرٍ وخلفوا معنا أحداثاً فانحدروا ذاتَ عشيةٍ إلى صرمٍ قريبٍ منا يتحدثون على جوار منهم، فلم يبقَ غيري وغيرُ بُثينة، إذا انحدرَ علينا منحدرٌ من هضبة، تلقانا فسلم ونحن مستوحشون وجلون، فتأملته ورددت السلام فإذا جميلُ.
فقلت : أجميل ؟ قال : أي والله.
وإذا به لا يتماسك جوعاً، فقمت على قعب لنا فيه أقط مطحون وإلى عكة فيها سمنٌ وربٌّ، فعصرتها على الأقطِ ثم أدنيتها منه، وقلت : أصب من هذا.
فأصابَ منه، وقمتُ إلى سقاءٍ فيه لبنٌ فصببتُ عليه ماءً بارداً فشرب منه، وتراجعتٍ نفسه، فقلتُ له : لقد بلغت ولقيت شراً فما أمرك ؟
قال : أنا والله في هذه الهضبة التي ترين منذ ثلاث ما أريمها، أنتظر أن أرى فرجةً، فلما رأيت منحدر فتيانكم أتيتكم لأودعكم، وأنا عامد إلى مصر.
فتحدثنا ساعة، ثم ودعنا وشخص فلم تطل غيبته إلى أن جاء ناعيه ..
#يُتبع