القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

(جميل وبثينة) حبٌّ ذُرِفتْ عليه الدموعُ .. سلسلة حلقات

237

بقلم / حمادة توفيق
(الثانية)
عرفنا بالتفصيل في الحلقةِ السابقةِ من هو جميلٌ عاشقُ بُثينة، لكن من هي بُثينة ؟ !!
لنطالع، من يا تُرى بُثينةُ عشيقةُ جميل ؟
هي بُثينةُ حبيبةُ جميلٍ بنِ معمرٍ العذري، بُثينةُ بنتُ حبا بن ثعلبةَ بن لهوذٍ بن عمرَ بن الأصبّ بن حرّ بن ربيعة، كذلك نسبها صاحبُ الأغاني، وهي من بني عُذرة، هامَ بها وذكرها في شعره جميلُ بن عبد الله بن معمر فعُرِفَ بها، حتى إنه لا يعرف إلا بجميل بثينة.
تزوجها رجلٌ يُقال له : نبيه بن الأسود، وبقي جميلُ يترددُ عليها بلا ريبة، وكانت بُثينةُ من أحسنِ النساءِ وأكملهنَّ أدباً وظرفاً وأطيبهنَّ حديثا، ولها مع جميلٍ نوادرٌ وأشعارٌ ومغازلاتٌ كثيرةٌ كلها مستورةٌ بالعفةِ والأدب، فمنها أن سببَ ما علقَ بها جميلُ أنه أقبلَ يومًا بإبله حتى أوردها واديًا يُقالُ له : بغيض، فاضطجعَ وأرسلَ إبله ترعى، وأهلُ بُثينةَ يومئذٍ في جانبِ الوادي، فأقبلتْ بُثينةُ وجارةٌ لها واردتين الماء، فمرتا على فصالٍ له بروكٍ فنفرتهنَّ بثينة (أي انتهرتهن)، فقال : قد نفرتهن، وكانت إذ ذاك جويريةً صغيرةً فسبها جميل، فبادلته السبَّ وشتمته هي أيضاً فاستحسن سبابها وهام بها من ذاك الحين !!
وفي ذلك يقول :
وأولُ ما قادَ المودةَ بينـنـا ..
بوادي بغيضٍ يا بثينُ سبابُ !
وقلنا لها قولاً فجاءتْ بمثله ..
لكلِّ كلامٍ يا بثينُ جـوابُ !
وخرجتْ بُثينةُ في يومِ عيدٍ وكانت النساءُ إذ ذاك يتزينَّ ويجتمعنَ ويدنو بعضهنَّ لبعض، ويبدينَ للرجالِ في كلِّ عيد، فجاءَ جميلُ فوقفَ على بُثينةَ وأختها أمِّ الحسينِ في نساءٍ من بني الأحبّ، فرأى منهن منظرًا لطيفًا فقعد معهنَّ ثم انصرف، وكان معه فتيانِ من بني الأحبّ، فعلم أن القومَ قد عرفوا في نظره حبَّ بُثينةَ ووجدوا عليه، فراحَ وهو يقول :
عجلَ الفراقُ وليتهُ لم يعـجـلِ ..
وجرتْ بوادرُ دمعكَ المتهلـلِ !
طرباً وشاقكَ ما لقيتَ ولم تخفْ ..
بين الحبيبِ غداةَ برقةَ محـولِ !
وعرفتَ أنك حين رحتَ ولم يكن ..
بعد اليقينِ وليس ذاكَ بمشكـلِ !
لن تستطيعَ إلى بُثـينةَ رجـعةً ..
بعد التفرقِ دونَ عامٍ مقـبـلِ !
ولما سمعت بُثينةُ أن جميلاً شبَّ بها حلفتْ باللهِ أن لا يأتيها على خلوة إلا خرجت إليه ولا تتوارى منه، فكان يأتيها عند غفلاتِ الرجالِ فيتحدثُ معها ومع أخواتها حتى نمى إلى رجالها أنه يتحدث إليها، وكانوا أصلافاً (أي غيارى)، فرصدوه بجماعةٍ نحوٍ من بضعةِ عشرَ رجلا، وجاء على الصهباء ناقته حتى وقف بِبُثينةَ وأمِّ الحسينِ وهما تحدثانه، وهو ينشدهما قوله :
حلفتُ بربِّ الراقصاتِ إلى منى ..
هويَّ القطا تجتزنَ بطنَ دفينِ !
لقد ظنَّ هذا القلبُ أن ليس لاقيا ..
سُليمى ولا أمَّ الحسينِ لحـينِ !
فليت رجالاً فيكِ قد ندروا دمي ..
وهموا بقتلي يا بُثينُ لقـونـي !
فبينما هو على تلك الحالِ إذ وثبَ عليه القومُ فأطلقَ عنانَ الناقة، فخرجتْ من بينهم كالسهم.
ووعدت جميلاً يومًا أن يلتقيا في بعض المواضع فأتى لوعدها، وجاء أعرابيٌّ يستضيفُ القومَ فأنزلوه وقروه فقال لهم : قد رأيتُ في بطنِ هذا الوادي ثلاثةَ نفرٍ متفرقينَ متوارينَ في الشجر، وأنا خائفٌ عليكم أن يسلبوا بعض إبلكم.
فعرفوا أنه جميلٌ وصاحباه، فحرسوا بُثينةَ ومنعوها من الوفاءِ بوعده، فلما أسفر الصبح انصرفَ كئيباً سيئَ الظنِّ بها ورجعَ إلى أهله، فجعل نساءُ الحيِّ يقرعنه بذلك ويقلن له : إنما حصلتَ منها الباطلَ والكذبَ والغدرَ وغيرُها أولى بوصلك منها، كما أن غيرك يحظى بوصلها، فقال في ذلك :
فلربَّ عارضةٍ علينا وصـلـهـا ..
بالجدِّ تخلطه بقـولِ الـهـازلِ !
فأجبتها في القولِ بعـد تـسـتـرٍ ..
حبي بِبُثينة عن وصالك شاغلي !
لو كان في صدري كقدرِ قـلامةٍ ..
فضلاً وصلتكِ أو أتتكِ رسائلـي !
ويقلنَ إنك قد رضيتَ بـبـاطـلٍ ..
منها لك في اجتنابِ الـبـاطـلِ !
ولباطلٌ مـمـن أحـبُّ حـديثـه ..
أشهى إليَّ من البغيضِ الـبـاذلِ !
ليزلنَ عنكِ هوايَ ثم يصلـنـنـي ..
وإذا هويتُ فما هـوايَ بـزائلِ !
أبُثينُ إنكِ قد ملكتِ فاسـحـجـي ..
وخذي بحظكِ من كريمٍ واصـلِ !
عشق جميل بُثينةَ إذن وانطلقَ ينظمُ الشعرَ فيها، فجمع له قومها جمعًا ليأخذوه إذا أتاها، فحذرته بُثينةُ فاستخفى وقال :
فلو أنِ الغادون بثينة كلهم ..
غياري وكلُّ حاربٍ مزمعٌ قتلي !
لحاولتها إما نهاراً مجاهراً ..
وإما سرى ليلٍ ولو قطعت رجلي !
وهجا قومها فاستعدوا عليه مروان بن الحكم وهو يومئذ عامل المدينة، فنذرَ ليقطعنَّ لسانه، فلحق بجذام وقال :
أَتانِيَ عَن مَروانَ بِالغَيبِ أَنَّهُ ..
مُقيدٌ دَمي أَو قاطِعٌ مِن لِسانِيا !
فَفي العيشِ مَنجاةٌ وَفي الأَرضِ مَذهَبٌ ..
إِذا نَحنُ رَفَّعنا لَهُنَّ المَثانِيا !
وَرَدَّ الهَوى أُثنانُ حَتّى اِستَفَزَّني ..
مِنَ الحُبِّ مَعطوفُ الهَوى مِن بِلادِيا !
بقى جميلُ هناك حتى عزل مروان عن المدينة، فانصرف على بلاده وكان يختلفُ إليها سرا.
كان لبثينة أخٌ يُقالُ له حوَّاش، عشق أختَ جميلٍ وتواعدَ للمفاخرة فغلبه جميل، ولما اجتمعوا لذلك قال أهل تيماء : قل يا جميل في نفسك ما شئت، فأنت الباسل الجواد الجمل، ولا تقل في أبيك شيئًا فإنه كان لصٍّا بتيماءَ في شملة لا توارى لبسته !
وقالوا لحواش : قل، وأنت دونه في نفسك وفي أبيك ما شئت، فقد صحبَ النبي “صلى الله عليه وعلى آله وسلم”.
قال كثير : قال لي جميل يومًا : خذ لي موعدًا مع بثينة، قلت : هل بينك وبينها علامة ؟ قال : عهدي بهم وهم بوادي الدوم يرحضون ثيابهم، فأتيتهم فوجدت أباها قاعدًا بالفناء، فسلمتُ فردّ، وحادثته ساعة حتى استنشدني فأنشدته :
وَقُلتُ لَها يا عَزَّ أَرسَلَ صاحِبي ..
عَلى نَأيِ دارٍ وَالرَسولُ مُوَكَّلُ !
بَأَن تَجعَلي بَيني وَبَينَكِ مَوعِدًا ..
وَأَن تَأمُريني بِالَّذي فيهِ أَفعَلُ !
وَآخِرُ عَهدٍ مِنكَ يَومَ لَقيتَني ..
بِأَسفَلِ وادي الدَومِ وَالثَوبُ يُغسَلُ !
فضربت بثينة جانب الستر، وقالت إخسأ، ولما تساءل والدها، قالت : كلبٌ يأتينا إذا نام الناس من وراء هذه الرابية.
قال : فأتيت جميلاً وأخبرته أنها وعدته وراء الرابية إذا نام الناس.
كما يروي ابن عياش قائلًا : خرجتُ من تيماءَ فرأيتُ عجوزًا على أتان – أنثى الحمار – فقلت من أنت ؟ قالت : من عُذرة، قلت : هل تروينَ عن جميلٍ ومحبوبته شيئاً ؟ فقالت : نعم، إنا لعلى ماء بئر الجناب وقد اتقينا الطريق واعتزلنا مخافةَ جيوش تجيء من الشام إلى الحجاز، وقد خرج رجالنا في سفر، وخلفوا عندنا غلمانًا أحداثًا، وقد انحدر الغلمان عشيةً إلى صرم لهم قريب منا ينظرون إليهم، ويتحدثون عن جوار منهم، فبقيتُ أنا وبثينة، إذا انحدر علينا منحدرٌ من هضبةٍ حذاءنا فسلم ونحن مستوحشون، فرددتُ السلام، ونظرت فإذا برجلٍ واقفٍ شبهتهُ بجميل.
فدنا فأثبته فقلت : أجميل ؟ قال : إي والله، قلت : والله لقد عرضتنا ونفسك شرًا فما جاء بك ؟ قال : هذه الغول التي وراءك وأشار إلى بثينة، وإذا هو لا يتماسك !
فقمتُ إلى قعبٍ فيه إقطٌ مطحونٌ وتمر، وإلى عكةٍ فيها شيءٌ من سمنٍ فعصرته على الإقط “الجبن”، وأدنيته منه فقلت : أصبْ من هذا، وقمتُ إلى سقاءِ لبنٍ فصببتُ له في قدحِ ماءٍ باردٍ وناولته، فشرب وتراجع، فقلت له : لقد جهدتَ فما أمرك ؟ فقال : أردتُ مصرَ فجئتُ أودعكم وأسلم عليكم، وأنا والله في هذه الهضبة التي ترين منذ ثلاث ليال أنظر أن أجدَ فرصة، حتى رأيتُ منحدرَ فتيانكم العشية، فجئت لأحدث بكم عهدًا، فحدثنا ساعة ثم ودعنا وانطلق، فلم نلبث إلا يسيرًا حتى أتانا نعيه من مصر ..
#يُتبع

قد يعجبك ايضا
تعليقات