بقلم: نرمين دميس
كانت الفرصة سانحة هذه المرة، لأتأمل هؤلاء الأشخاص، أحلل أنماطهم، فبدا لي الأمر كمشهد سينمائي لفيلم واقعي.
فهؤلاء مجموعة من النسوة الريفيات، اللاتي يحملن أكياسا كبيرة من الخيش، تحوي كميات من الخضروات الطازجة، هي نتاج زراعتهن، يذهبن لبيعها في المدينة منذ الصباح الباكر؛ ليعدن آخر اليوم ببضعة جنيهات، تعينهن على العيش وضيق الحال، فراحت إحداهن تقص رحلتها في جهاز ابنتها العروس، تسرد القائمة الطويلة، التي اشترت بعضا منها ومازال الكثير بعد، وأخرى تتحدث عن توفير نقود الجمعية، التي دخلتها لتأمين نفقات ابنها الطالب الجامعي المغترب، والثالثة تشكو ضنك العيش؛ فزوجها لا يسعى وراء رزقه، ينام نهارا، ويسهر بمقهى البلدة ليلا، لا يكترث بأعبائه كرب للأسرة، ويترك الأمر كله على كاهلها، وغيرها من حكايا النسوة، التي لا تنم عن ضيق حالهن فقط، إنما تنم أيضا عن نساء قويات محاربات مسئولات، تحمل أكتافهن أثقالا أكبر منهن، يحملنها متوكلات على ربهن في العون والقدرة على الاحتمال.
وهذا عسكري التجنيد، الشاب القروي في مقتبل العمر، الفخور ببيادته وبدلته العسكرية؛ حتى أنه يداوم على ارتدائها في أيام الأجازة، فتجده يمشي معجبا بنفسه، يشعر بالزهو والسعادة؛ عندما يناديه الناس”يا دفعة”، أو عندما يخرج الكارنيه الخاص به؛ فتذكرته مجانية، يعتبر فترة تجنيده على الرغم من المخاطر والاغتراب، أفضل من البطالة أو العمل الشاق في الأرض الزراعية بمقابل زهيد، يرى في التجنيد فرصة لاكتساب الخبرات والعلاقات الجديدة في بيئة مختلفة، وهو الآن في مأزق حقيقي؛ فهو عائد من الأجازة، ويجب عليه تسليم نفسه إلى الخدمة في وقت محدد، فلا مزاح ولا أعذار مع الجيش وأنظمته الصارمة.
مازلنا عالقين في الطريق، الوقت يمر، الجميع متوتر من تبعات هذا التأخير، لا نرى أو نستشعر أي تقدم في الامر، ويبدو أننا سنبقى هكذا لبعض الوقت.
ذهبت ببصري لآخر العربة؛ لتقع عيناي على رجل في أواخر الخمسينيات، يبدو من هيئته والأظرف البنية التي يحملها- والتي تشبه تلك الموجودة بالمصالح والهيئات العامة- أنه موظف حكومي، وقد أسند رأسه إلى الشباك ونظره شاخص خارجه، لا يتحدث مع أحد أو حتى يتذمر مع المتذمرين، يبدو على وجهه أنه يحمل جبالا من الهموم؛ فربما يكون مسافرا بهذا الظرف المحشو بالأوراق لمد فترة خدمته لسنة أو سنتين مثلا؛ فهو بالتأكيد أب لأبناء في مراحل التعليم المختلفة، أو لابنة في سن الزواج؛ ومازالت أعباؤه ثقيلة، أو ربما قد تم نقله من عمله إلى خارج مدينته؛ فيضطر إلى السفر يوميا ذهابا وإيابا؛ فيتكبد مشقة ووقتا وتكاليف إضافية هو في غنى عنها، فيحاول جاهدا العودة إلى مدينته، وأيا كان سبب همه المكتوم والمرتسم على ملامحه، فهو متضرر أشد الضرر من التأخير، مثله في ذلك مثل الجميع.
يتبع ..
رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرية