القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

قراءة نقدية في رواية ٩ مارس للروائي محمود الشامي (٣-٣)

136

بقلم: مصطفى نصر
متابعه :انجي رفيق

نتناول في هذا الجزء الثالث والأخير من هذه الدراسة الحدث الروائي في رواية ٩ مارس، فالحدث هو مجموعة الوقائع والأحداث المتعلقة بكلّ جزئيات وتفاصيل الرواية، والتي يجب أن تكون مترابطة مع بعضها بشكلٍ خاصّ، وهو ما يُطلق عليه اسم الإطار العام للقصّة أو ما يسمى بالحبكة الروائية، وهو بمعنى آخر أن تكون شخصيات وحوادث السرد مترابطٌ بعضُها مع بعض بشكل منطقيٍّ وسببيٍّ، ويجعل منها كتلة صمَّاء ووحدة متماسكة لها دلالات محددة، والأحداث المسرودة ضمنَ إطار الحبكة سرداً أدبياً فنياً متسلسلاً بصورة منطقية، تشابه تفاصيله واقعنا المعيش في تفاصيلها، بعيداً عن الخوارق والمبالغات.
ويمثل الحدث الأساسي في هذه الرواية ذلك المشهد الأول الذي يبدأ من نقطة قرب نهاية الأحداث، والمتصل بالتبدل المفاجيء لحال بطلة الرواية (رحمة) إلى شخصية انطوائية بعيداً عن طبيعتها الأولى، كشخصية ذات طبيعة اجتماعية مرحة تملأ الابتسامة أساريرها دائمًا، وقد استطاع الكاتب من هذه النافذة الصغيرة التي أتى بها مبؤرة وشديدة لفت الانتباه، تشكيل بناء كامل متكامل لروايته بالمهارة القصصية التي يتمتع بها، واستطاع أن يكثف هذا الحدث الأولي في ذاته، ليصل عبره لعمارة قصصية متكاملة البناء، بالتدرج في التفصيلات بكل جزئياتها حتى لا يثقل القصة، ويؤدي فعله إلى تشتيت لقطتها التي تحتاج إلى التبئير الشديد، لنتعرف بعد ذلك على ما أسماه بـ(لعنة مارس) التي حلت بها كـ(لعنة الفراعنة) التي حيكت حولها الأساطير، وحولت حياتها إلى جحيم تلخصه بقولها: تنهدت وقالت بألم وبنبرة حزينة: (التاسع من مارس، لن تمر ذكراك عابرة، ولم تكن يوماً عادياً، لا أعرف ما الذي جعلني تركته يمر، كان عليَّ ألا أدعه أو لا أدع نفسي تمر إلى يوم آخر، لكنه مرَّ.. وأنا توقفت عنده، ووقف كل شيء بداخلي ومن حولي، ومن يومها لا وجود لذاتي، مات كل شيء بداخلي، وشلت جميع حركاتي وسكناتي، أعيش جسداً بلا روح، أو بالأحرى: لا أعيش).
ورغم أن مارس في مطلع هذه الرواية ذكرنا أنه ذكرى سعيدة للشعب الإرتيري الذي تنحدر منه رحمة، لانه مثل الشرارة الأولى لحركة التحرر الإرتيرية، التي وصلت لغاياتها النهائية بتحرير الأرض وقيام الدولة الإرترية التي كانت حلم كل اريتري، إلا أنه تحول إلى شهر كآبة وشقاء بالنسبة لبطلته رحمة، إذ أنها فيه التقت بحبيبها أمان الذي حول حياتها إلى جحيم لا يطاق، لم يشفع لها أنها ضحت في سبيل الارتباط به بأسرتها كلها، حيث ذهبت وتزوجته بالمحكمة ضد رغبة والديها وأخيها وأصدقائها وصديقاتها الذين حدثوها كثيراً عن أن أمان ليس الشخص المناسب لترتبط به، لأنه ببساطة زير نساء، وفيه بعد ثلاث سنوات من زواجهما وانجابها أول طفلة خانها مع (الخادمة)، ورغم ما بذله من أيمان مغلظة بالله وبغلاوتها وبغلاوة طفلتيهما بعدم العودة مرة أخرى لطريق الخيانة، عاد مرة أخرى في مارس بعد وصول علاقتهما لسنتها العاشرة وأثمرت عن طفلتين، ليخونها مرة أخرى ومع من؟ مع صديقة عمرها (أحلام)، وهي الحادثة التي قصمت ظهر بعير علاقتها مع أمان، وأجبرتها على مفارقته إلى الأبد في مارس، رغم أن فراقهما تأخر كثيراً، إذ أنها ضحت عدة مرات بالبقاء معه رغم ما تكشف لها من علاقاته الطائشة مع النساء، حفاظاً فقط على أسرتها، وتضحية من أجل بنتيها حتى لا تتأثرا بفقد الأب.
إلى جوار هذا الحدث الأساسي كانت ثمة أحداث أخرى تدور مجاورة، تبدأ وتتفرع إلى حين، لكنها سرعان ماتتحول إلى نهر صغير يصب في بحر الحدث الأساسي لتعمِّق جانباً منه، أو تكشف عن دنيا من المعالم الوجدانية المرتبطة بالحدث الأساسي؛ منها الأحداث المتعلقة بأربعة رجال كانت حياتها تدور في فلكهم ويؤثرون في حياتها كأنثى، يراقب سلوكها الجميع، ظناً منهم بأنها كامرأة إنما هي مجرد وعاء زجاجي قابل للكسر، يخشى عليه من الوقوع في المحظورات وتابوهات العيب وسوء السمعة والشرف، ولعلَّ أكثر ما كان يضايقها منذ الصغر هو إحساسها المبكر بالتمييز بينها وبين شقيقها الأصغر إدريس، ففي مقابل البراحات الرحبة التي لم تكن تحدها حدود في تعامل الوالد مع ابنه إدريس بثقة مطلقة، حتى ولو غاب من البيت ليالي وأيام، كان ذلك الحصار المحكم المفروض حولها من أبيها، ومن أخيها إدريس عند غياب الأب، كأنما بينهما اتفاق ضمني بأنه الوريث الذي يرث كل ممتلكات الوالد في غيابه، بما فيها قطعتا أثاث من ممتلكاته هما زوجته – التي هي أمه – وأخته رحمة، وبالرغم مما في قلبها من يقين راسخ بالحب العميق الذي كان يكنه لها أبوها، وبأنه لم يكن يتأخر لها عن شيء تطلبه صغيراً كان أو كبيراً، لدرجة أن أمها وأخاها كانا يمرران طلباتهما عبرها، لثقتهم بأن طلباتهما ستكون مستجابة إذا تبنتها هي، إلا أنها كان يتملكها إحساس في بعض الأحيان بأن أباها لا يحبها، ويتعامل معها كمتهم مدان حتى تثبت براءته، وكان مما يذهلها أيضاً أن أمها الحبيبة التي لاتشك لحظة في قلبها المحب لها، كانت تراها كطرف متواطيء أيضاً في هذا الحصار المضروب عليها، لم تكلف يوماً نفسها بالوقوف إلى جانبها، إذ كانت موافقة ضمناً، بل متواطئة معهم أيضاً في ضرب سياج محكم من الحصار والتدخل في أخصَّ خصوصياتها.
كان والدها أول رجل تدور حياتها في فلكه، وقد عرفته أباً محباً وعطوفاً على أسرته، يفعل كلما في وسعه من أجل أن يوفر لها ولوالدتها وأخيها حياة كريمة، في بلد ليس هو مسقط رأسهم، اضطرتهم الظروف لأن يلجأوا إليه ساعة ظروف إنسانية استثنائية بسبب الحرب، وقد وفق الوالد كثيراً في التجارة، بقدر وافر من الثقة والأمانة والصدق وحسن التعامل مع زبائنه، التي كانت العامل الحاسم في نمو أعماله، أكثر من أي عامل آخر، وبفضل ما توافر له من ثروة نقلته إلى مصاف الميسورين، مما هيأ له تملك منزلين بالعاصمة جيبوتي، خصص الأكبر منهما والأجمل والذي يقع بالحي الأرقى لسكنى أسرته، بينما أجر الآخر لأسرة ليعينه على أعباء المعيشة،

الرجل الثاني في حياتها هو شقيقها الأصغر إدريس، والذي درس معها في كل المدارس من الإبتدائي إلى الثانوي الذي كان آخر محطاته في الدراسة، ليس كصديق دراسة حميم لها، بل كرقيب عليها، كأنما سلطه الوالد عليها كرقيب عتيد يحصي عليها أنفاسها، ويتعامل بعدوانية كبيرة مع كل طفل ذكر يقترب منها، بما في هؤلاء صديقهما المقرب (ناصر) الذي ظلت أمهما صديقة مقربة لأمه، وكان هو منذ طفولتهم في الحارة أخا لهما لم تلده أمهما، وزميلهما في الدراسة منذ الابتدائي وإلى الثانوي، ولم يفترقوا إلا في مرحلة الدراسة الجامعية فقط، إذ كان إدريس يضايقه قرب صالح من أخته، وينظر إلى تقاربهما العاطفي الأخوي بعين الريبة كجريمة مكتملة الأركان، رغم أن ناصر كان يتعامل بتهذيب وافر مع أخته، لذا كان يفعل كل مافي وسعه للمباعدة بينهما، باذلاً في سبيل ذلك جهداً عظيماً لو وفر نصفه لدراسته لكان من الأوائل على صفه، وبرغم كل ذلك الحصار لم يكن يفلح إلا قليلا في إبعادهما عن بعضهما، لأنه في نهاية المطاف هو ابن خالة صديقتها وتوأم روحها فردوسة، يقضون ثلاثتهم رحمة وناصر وفردوسة يومهم كاملًا بعد الدراسة في منزل فردوسة لا يفرق بينهم سوى مداعبة النوم الأجفان.
أما الرجل الثالث الذي دارت حياتها في كنفه، فهو صديق طفولتها وحياتها ناصر، وقد كان قلبه يميل لها ويتشوق للارتباط بها، إلا أنها قد فاتحته منذ وقت مبكر بمنتهى الدقة والصرامة والوضوح بأنها لا تكن له إلا مشاعر الأخاء، وأنها لا تتصًوره إلا في صورة شقيقها إدريس، رغم أنه أول من تعرفت على يديه بأنها أنثى جميلة ومرغوبة ومكتملة النضوج، وأن لها تميزها الخاص على كل بنات جنسها، وأول من سمعت من شفتيه كلمات الغزل البكر التي أدارت رأسها وأشعرتها برعشة العاطفة، وقد تقبل منها هذا الصدود بصدر رحب احترم مشاعرها كجنتلمان، رغم ما يعانيه في الداخل من مرارة الهجر والحرمان، ولم يبق له أمام هذا الرفض سوى أن يعزل نفسه بعيداً منها، فاختار منحة دراسية كمنفى اختياري له خارج الوطن بجامعة العلوم والتكنولوجيا بالسودان، حيث شغل نفسه طوال اليوم بالدراسة الأكاديمية، وبدراسة إضافية ليلاً لآلة الكمان في معهد خاص، لعله يتلهى عن جرح قلبه الغائر بفراق الحبيب الذي اعتاد لقاءه يوميا منذ نعومة أظافره، ليجد كل السلوى في أغنيات أمير العاشقين هاشم ميرغني الذي لطالما كان مأوى لكل المعذبين في الأرض الذين يعانًون من هجر الحبيب، فامتلأ حد الثمالة بقالو البعيش في الدنيا ياما تشوفو .. تسقيه بي فرقة عزيز .. بالحسرة ريقو تنشفو .. وانشالة ما يحدث فراق لي قلوب بعد ما اتولفو، وأغنية زيدان شلت الجراح والابتسامة وكل حرمان اليتامى.
ويعود من بعثته بعد ٤ سنوات ليصافح مسامعه أن حبيبته اختارت (أمان) زوجاً لها، فيختار هو تحاشي الأوبة للعاصمة، ويختار مدينة تاجورا كأول مقر عمل له بعد التخرج فور عودته إلى الوطن، وكان محظوظاً، فوالي تاجورا الجديد صديق مقرب لوالده وساعده في مسعاه والابتعاد عن العاصمة والحي الرابع ورحمة، وتم توظيفه في مقر محافظة تاجورا وفي موقع مقبول، سوى أنه حتى في تاجورا سقط في قصة حب أخرى من طرف واحد، متعلقًا بزهرة تاجورا ذات الجمال الأسطوري، وقد حذره من السقوط في براثن هذا الحب قبل أن يتورط فيه صديق مقرب له من أبناء تاجورا نفسها، إذ أنه بذل له نصحاً مبكرا بأن زهراء هي لم ولن تكون أبداً حكراً على شخص واحد يستأثر بها عن سائر أهل المدينة، ومن المستحيل أن يكون هذا الواحد هو أنت بالذات، لأنك لا تمثل إلا غريبا جاء ذات ظرف إلى هذه المدينة، ودماء تاجورا لا تجري في عروقك، ويعلق ناصر: صديقي حمد يعرف مدينته حقاً، ويعرف أنها ستفعل المستحيل وتقاتل من أجل زهرة، وتصل في دفاعها عنها إلى أبعد الحدود، وقد تصل إلى حد القتل وابتلاعها إن لزم الأمر، وإن لم تستطع حمايتها والدفاع عنها وقد كان.
أما الرجل الرابع والأخير الذي سارت في محيطه حياتها، فهو (أمان) زوجها وأبو بنتيها، وقد تحدثنا باستفاضة عن علاقتهما في الجزء الثاني.

قد يعجبك ايضا
تعليقات