القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

عم بطاط

171

بقلم _ شيماء السيد

وصلت متأخرة إلى الجريدة، أسرعت إلى مكتبي، وجدت الساعي يخبرني أن رئيس التحرير يسأل عني، أسقطت الأشياء من بين يدي، قلت في نفسي: “استر يارب.”

ذهبت إليه بينما أراجع نفسي، لعلي أعلم بالمصيبة التي تنتظرني، وجدته مشغولا كالعادة وسط مجموعة من الزملاء والاتصالات التليفونية، عندما رآني، رمقني بطرف عينه قائلا في عجالة:

” آدي فرصة عمرك اللي مصدعاني بيها كل شوية، عاوزك تغطسي في شوارع مصر، وتجيلي بقصة ملهمة؛ ننشرها في عمود أهل مصر.”

لم تسعني الفرحة، أخيرا..سأودع صفحة الحوادث.

انطلقت بسيارتي أجول في شوارع المحروسة، أبحث في وجوه الناس؛ علني أجد ضالتي، استقر بي الحال في مصر القديمة، صففت سيارتي، سرت وسط الناس حتى وجدته ينادي بأعلى صوته قائلا:

“يا لذيذ..يا معسل.” بينما يدفع عربة البطاطا، كان رجلا في الثمانين من العمر تقريبا،يرتدي جلبابا رمادي اللون، يزينه شال أبيض، أما وجهه، فقد كتب الزمن على كل جزء منه قصته، تعتلي وجهه ابتسامة، تجعله أصبى عشرين عاما.

للوهلة الأولى، ذهلت من قوته في دفع العربة؛ فأنا ابنة العشرين لا أستطيع ذلك، راقني أيضا، صوته الجهوري، وهو ينادي على بضاعته، يتغزل فيها، بمجرد وقوفه في الشارع، بدأت الناس في الاقبال عليه، كأنهم على موعد معه، سمعت أحدهم يناديه”عم بطاطا”، أمسكت الكاميرا، التقطت له عدة صور مع زبائنه، ثم اقتربت منه، فوجدته يبتسم لي؛ مما شجعني أن أبدأ معه الحديث قائلة:

“صباح الفل يا عم بطاطا”

– صباح الورد على أحلى وردة، أول مرة اشوفك، شكلك مش من هنا.

– وأنت بقى عارف كل الناس اللي هنا؟!

-أمال ايه، بالك أنت كل العيال والشباب مولودين على ايدي، ده انا هنا من أيام الملك.

-ياااه يا عم بطاطا، ربنا يديك الصحة، بس قولي انت اسمك بطاطا ولا ده الاسم الحركي.

– لأ لي اسم في البطاقة، بس تصدقي نسيته من ساعة ماجيت هنا، وهم بيقولولي يا عم بطاطا.

— وعندك عيال يا عم بطاطا؟!

– نحمده، عندي 8عيال ..5ولاد و3 بنات.

– وعارف تربيهم في الغلا اللي احنا فيه ده؟!

– ايه يا بنتي الأسئلة دي كلها؟! أنت جاية تاكلي بطاطا ولا تتعرفي علي؟!

– أنا صحفية وعاوزة اكتب عنك.

– يا حلاوة يا ولاد، وصورتي تطلع في الجرايد زي بتوع السيما!

بس تصوريني مع عربية البطاطا، دي عشرة عمري ولازم تطلع معايا.

– أوامرك ياراجل ياطيب، يلا بقى احكيلي حكايتك.

– انا راجل بسيط، وعيت ع الدنيا لقيتني لوحدي، أمي ماتت وهي بتولدني، أبويا بعد كام سنة حصلها، قرايبي ربوني لحد 10 سنين، بعد كده قلتلهم كفاية عليكم كده، انا هأشق طريقي، وجيت ع القاهرة ورزقها الواسع، اشتغلت مع راجل طيب، صبي على عربية بطاطا، هنا في نفس المكان اللي احنا واقفين فيه ده، كبرت والمعلم مات، عياله ماكانش لهم في الشغلانة، باعولي العربية وبعدها بقيت “عم بطاطا”

-يعني انت واقف هنا من وانت عندك 10 سنين؟! طب مفكرتش تشتغل حاجة تانية بعد معلمك مامات؟!

– و أسيب البطاطا لمين يا أستاذة؟! ده أنا حبيتها زي ماتكون عيل من عيالي؛ أصلها وش السعد علي.

– محدش هنا حاول يضايقك، أو يمشيك من مكانك؟!

– يووووه..كتير أوي يا أستاذة، بس الصبر مافيش أحلى منه، وأهو كلهم مشيوا، وانا لسه في مكاني.

– وازاي عرفت تربي 8 أطفال؟!

– يا أستاذة، احنا فقرا اوي، والفقرا مبيشتكوش، بيعيشوا اليوم بيومه، على قد الرزق اللي ربنا بيبعته، لا حيلتنا نشيل لبكرة، ولا صامتين حتى إنه ييجي، ولما بتضيق أوي، بنقول يااارب، ونرميها عليه، أنام وأصحى، ألاقي الكريم حلها من عنده.

– علمت ولادك؟!

-طبعا..مش كفاية انا وأمهم مبنفكش الخط، لازم يبقوا أحسن مننا، حتى البنات علمتهم، واتخرجوا كلهم من الجامعة، واشتغلوا، والولاد ساعدوني في جهاز البنات وسترتهم، بعد كده الولاد اتجوزوا، وأمهم ماتت الله يرحمها، ورجعت تاني لوحدي.

– ومحدش من ولادك بيساعدك في شغلك؟!

-يساعدوني ايه! دول متخرجين من الجامعة، وبقوا متوظفين، وعندهم عيال، معقولة يقفوا على عربية بطاطا!

-طب ليه ما قعدتش عند حد من ولادك، واستريحت من الشغل؟!

– أنت هتعملي زيهم! أنا لو قعدت يوم في البيت؛ أموت..الشغل صحة للي زيي، والأيد البطالة نجسة، ده انا بأطلبها كل يوم من ربنا، إني أموت وأنا واقف أبيع بطاطا.

– وأحفادك عارفين إنك بتسرح العربية بطاطا؟!

– أمال ايه..ولادي عمرهم مااستعروا من شغلتي، ماهي اللي أكلتهم وعلمتهم، وأنا دايما أقولهم ..الشغل مش عيب، المهم إن الرزق يبقى بالحلال.

– طب بتحلم بايه يا عم بطاطا.

-باحلم أشوف الناس رجعت تاني زي زمان، حكم جيلكوا ده يا أستاذة عمال يجري ورا الفلوس، نفسي تهدوا شوية، وكل حاجة هتجيلكوا في الوقت المناسب، وربنا كبير، مبينساش حد، بس قولوا يارب.

التقطت صورة لي مع عم بطاطا، هرولت إلى الجريدة، أفكر في برواز للصورة، التي ستكون بوابتي لترك الحوادث إلى عالم الأحلام في بلاط صاحبة الجلالة .

قد يعجبك ايضا
تعليقات